فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}
أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
والنَّجْوَى: السر بين الاثنين، تقول: ناجيت فلانًا مناجاة ونِجاء وهم ينْتَجون ويتناجوْن.
ونَجَوْت فلانًا أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي خلصته وأفردته، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عمّا حوله، قال الشاعر:
فَمَنْ بِنَجْوَتِهِ كمن بِعَقوتِهِ ** والمُسْتَكِنّ كمن يَمْشِي بِقِرْواحِ

فالنجوى المسارّة، مصدر، وقد تُسمَّى به الجماعة، كما يقال: قومٌ عدلٌ ورِضًا.
قال الله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47]، فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس، وهو الاستثناء المنقطع.
وقد تقدم، وتكون {مَنْ} في موضع رفع، أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير.
ويجوز أن تكون {منْ} في موضع خفض ويكون التقدير: لا خير في كثير مِن نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف.
وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسمًا للجماعة المنفردين، فتكون {منْ} في موضع خفض على البدل، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة.
أو تكون في موضع نصب على قول من قال: ما مررت بأحد إلا زيدًا.
وقال بعض المفسرين منهم الزجاج: النَّجْوَى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سِرًّا أو جهرًا، وفيه بُعْدٌ. والله أعلم.
والمعروف لفظ يَعُمّ أعمالَ البِرِّ كلَّها.
وقال مقاتِل: المعروف هنا الفرض، والأول أصح.
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طَلْق» وقال صلى الله عليه وسلم: «المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله» وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر.
وقال الحُطَيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازِيَه ** لا يذهبُ العُرْفُ بين الله والناسِ

وأنشد الريَّاشِيّ:
يَدُ المعروفِ غُنْمٌ حيث كانت ** تحمّلها كَفورٌ أو شكورُ

ففي شكر الشكور لها جزاء ** وعند الله ما كفَر الكفور

وقال الماوردِي: فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خِيفةَ عجزه، وليعلم أنه من فُرض زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت نَدَما، ومعوّل على مِكْنَة زالت فأوْرثَتْ خجلًا، كما قال الشاعر:
ما زلت أسمع كم من واثق خجل ** حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا

ولو فطِن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَن فُتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه» وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح» وقيل لأنُو شِرْوان: ما أعظم المصائب عندكم؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت.
وقال عبد الحميد: من أخّر الفُرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها.
وقال بعض الشعراء:
إذا هبّتْ رياحُك فاغتنمها ** فإنّ لكل خافِقَة سُكونُ

ولا تغفل عن الإحسان فيها ** فما تدري السكون متى يكون

وكتب بعض ذوي الحرمات إلى والٍ قصّر في رعاية حُرْمته:
أعَلَى الصراط تريد رِعْية حرمتي ** أم في الحساب تمنّ بالإنعام

للنفع في الدنيا أُريدك، فانتبه ** لحوائجي من رقدة النوّام

وقال العباس رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظّمته، وإذا سترته أتممْته.
وقال بعض الشعراء:
زاد معروفُك عندي عظما ** إنه عندك مستور حقير

تتناساه كأنْ لم تأتِه ** وهو عند الناس مشهور خطير

ومن شرط المعروف تركُ الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر.
وقد تقدّم في البقرة بيانه.
قوله تعالى: {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس} عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى.
وفي الخبر: «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكرٍ لله تعالى» فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب.
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعرِيّ رضي الله عنه: ردّ الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورِث بينهم الضغائن.
وسيأتي في «المجادلة» ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب: «ألا أدُلُّك على صدقة يحبها الله ورسوله، تصلح بين أُناس إذا تفاسدوا، وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» وقال الأُوزاعيّ: ما خطوة أحبّ إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار.
وقال محمد بن المُنْكَدِر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فمِلْت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا؛ فقال أبو هريرة وهو يراني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد» ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضّل النسفيّ في كتاب اللؤْلُئيّات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه. اهـ.

.قال ابن عطية:

الضمير في {نجواهم} عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة، والنجوى: المسارَّة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل، كأنه قال: لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه، كأنه قال: لا خير في كثير من تناجيهم، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف، كأنه قال: إلا نجوى من، قال بعض المفسرين: النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سرًا أو جهرًا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: انفراد الجماعة من الاستسرار، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه، و«المعروف»: لفظ يعم الصدقة والإصلاح، ولكن خُصَّا بالذكر اهتمامًا بهما، إذ هما عظيمًا الغناء في مصالح العباد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله: ابن عباس وغيره.
وقال مقاتل: هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر طعمة.
وقال ابن عطية: هو عائد على الناس أجمع.
وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى.
وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدرًا، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي: إلا نجوى من أمر، وقاله: أبو عبيدة.
وإن كان النجوى المتناجين قيل: ويجوز في: مِن الخفض من وجهين: أن يكون تابعًا لكثير، أو تابعًا للنجوى، كما تقول: لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة، وإن شئت اتبعته القوم.
ويجوز أن يكون مِن أمر مجرورًا على البدل من كثير، لأنه في حيز النفي، أو على الصفة.
وإذا كان منقطعًا فالتقدير: لكن مَن أمر بصدقة فالخير في نجواه.
ومعنى أمر: حث وحض.
والصدقة تشمل الفرض والتطوّع.
والمعروف عام في كل بر.
واختاره جماعة منهم: أبو سليمان الدمشقي، وابن عطية.
فيندرج تحته الصدقة والاصلاح.
لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتمامًا، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد.
وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما، حتى صار القسم قسيمًا.
وقيل: المعروف الفرض.
روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل.
وقيل: إغاثة الملهوف.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى.
وفي الحديث الصحيح: «كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى».
وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقوامًا فقال أحدهم: ما أشد هذا الحديث! فقال له: ألم تسمع كل معروف صدقة، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ.
وقال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ** لا يذهب العرف بين الله والناس

وظاهر قوله: {أو إصلاح بين الناس}، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع.
وقيل: هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين.
قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: ذكر ثلاثة أنواع، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله: {أو إصلاح بين الناس}.
أو بإيصال المنفعة إما جسمانيًا وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: {بصدقة}.
أو روحانيًا وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: {أو معروف}.
وقال الراغب: يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر.
ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر، وإليه أشار بقوله: {صبغة الله} {وفطرة الله} وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى.
وهذه نزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح.
وقيل: هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة، وبدأ بأكثرها نفعًا وهو إيصال النفع إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل، والإصلاح بين الناس على سياستهم، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى.
وقال عليه السلام: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل: بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين» وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقًا من الأمر، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى. اهـ.